فصل: سورة هود

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مختصر ابن كثير **


 سورة هود

بسم اللّه الرحمن الرحيم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏1 ‏:‏ 4‏)‏

{‏ الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير ‏.‏ ألا تعبدوا إلا الله إنني لكم منه نذير وبشير ‏.‏ وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى ويؤت كل ذي فضل فضله وإن تولوا فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير ‏.‏ إلى الله مرجعكم وهو على كل شيء قدير ‏}‏

تقدم الكلام على حروف الهجاء في أول سورة البقرة بما أغنى عن إعادته هنا وباللّه التوفيق، وأما قوله‏:‏ ‏{‏أحكمت آياته ثم فصلت‏}‏ أي هي محكمة في لفظها، مفصلة في معناها فالقرآن كامل صورة ومعنى، هذا معنى ما روي عن مجاهد وقتادة واختاره ابن جرير، وقوله‏:‏ ‏{‏من لدن حكيم خبير‏}‏ أي من عند اللّه الحكيم في أقواله وأحكامه، الخبير بعواقب الأمور ‏{‏ألا تعبدوا إلا اللّه‏}‏ أي أنزل هذا القرآن المحكم المفصل لعبادة اللّه وحده لا شريك له، وقوله‏:‏ ‏{‏إنني لكم منه نذير وبشير‏}‏ أي إني لكم نذير من العذاب إن خالفتموه، وبشير بالثواب إن أطعتموه؛ كما جاء في الحديث الصحيح أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم صعد الصفا، فدعا بطون قريش الأقرب ثم الأقرب، فاجتمعوا، فقال‏:‏ ‏(‏يا معشر قريش أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلاً تصبّحكم ألستم مصدقيّ‏؟‏‏)‏ فقالوا‏:‏ ما جربنا عليك كذباً، قال‏:‏ ‏(‏فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد‏)‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه‏}‏ أي وآمركم بالاستغفار من الذنوب السالفة والتوبة منها إلى اللّه عزَّ وجلَّ فيما تستقبلونه، وأن تستمروا على ذلك‏:‏ ‏{‏يمتعكم متاعا حسنا‏}‏ أي في الدنيا، ‏{‏إلى أجل مسمى ويؤت كل ذي فضل فضله‏}‏ أي في الدار الآخرة، قاله قتادة، كقوله‏:‏ ‏{‏من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة‏}‏ الآية، وقد جاء في الصحيح أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال لسعد‏:‏ ‏(‏وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه اللّه إلا أجرت عليها حتى ما تجعل في فيّ امرأتك‏)‏، عن ابن مسعود في قوله‏:‏ ‏(‏‏{‏ويؤت كل ذي فضل فضله‏}‏، قال‏:‏ من عمل سيئة كتبت عليه سيئة، ومن عمل حسنة كتبت له عشر حسنات، فإن عوقب بالسيئة التي كان عملها في الدنيا، بقيت له عشر حسنات، وإن لم يعاقب بها في الدنيا أخذ من الحسنات العشر واحدة وبقيت له تسع حسنات، ثم يقول‏:‏ هلك من غلب آحاده على أعشاره ‏"‏أخرجه ابن جرير الطبري‏"‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وإن تولوا فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير‏}‏، هذا تهديد شديد لمن تولى عن أوامر اللّه تعالى، وكذَّب رسله فإن العذاب يناله يوم القيامة لا محالة ‏{‏إلى اللّه مرجعكم‏}‏ أي معادكم يوم القيامة، ‏{‏وهو على كل شيء قدير‏}‏ أي وهو القادر على ما يشاء من إحسانه إلى أوليائه وانتقامه من أعدائه، وإعادة الخلائق يوم القيامة، وهذا مقام ترهيب كما أن الأول مقام ترغيب‏.‏

 الآية رقم ‏(‏5‏)‏

‏{‏ ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه عليم بذات الصدور ‏}‏

قال ابن عباس‏:‏ كانوا يكرهون أن يستقبلوا السماء بفروجهم وحال وقاعهم، فأنزل اللّه هذه الآية، وفي لفظ آخر له‏:‏ أناس كان يستحون أن يتخلوا، فيفضوا إلى السماء، وأن يجامعوا نساءهم فيفضوا إلى السماء، فنزل بعد ذلك فيهم ‏"‏أخرجه البخاري عن ابن عباس‏"‏، قال البخاري‏:‏ ‏{‏يستغشون‏}‏ يغطون رؤوسهم، وقال ابن عباس في رواية أخرى في تفسير هذه الآية،‏:‏ يعني به الشك في اللّه وعمل السيئات، أي أنهم كانوا يثنون صدورهم إذا قالوا شيئاً أو عملوه، فيظنون أنهم يستخفون من اللّه بذلك، فأخبرهم اللّه تعالى أنهم حين يستغشون ثيابهم عند منامهم في ظلمة الليل ‏{‏يعلم ما يسرون‏}‏ من القول، ‏{‏وما يعلنون إنه عليم بذات الصدور‏}‏ أي يعلم ما تكن صدورهم من النيات والضمائر والسرائر، وما أحسن ما قال زهير بن أبي سلمى في معلقته المشهورة‏:‏

فلا تكتمن اللّه ما في قلوبكم * ليخفى ومهما يكتم اللّه يعلم

وقال عبد اللّه بن شداد‏:‏ كان أحدهم إذا مر برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ثنى عنه صدره وغطى رأسه فأنزل اللّه ذلك، وعود الضمير إلى اللّه أولى، لقوله‏:‏ ‏{‏ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون‏}‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏6‏)‏

‏{‏ وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين ‏}‏

أخبر تعالى أنه متكفل بأرزاق المخلوقات من سائر دواب الأرض، صغيرها وكبيرها وأنه يعلم مستقرها، أي يعلم أين منتهى سيرها في الأرض وأين تأوي إليه من وكرها وهو مستودعها، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏ويعلم مستقرها‏}‏ أي حيث تأوي ‏{‏ومستودعها‏}‏ حيث تموت، وعن مجاهد‏:‏ ‏{‏مستقرها‏}‏ في الرحم ‏{‏ومستودعها‏}‏ في الصلب، فجميع ذلك مكتوب في كتاب عند اللّه كقوله‏:‏ ‏{‏ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين‏}‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏7 ‏:‏ 8‏)‏

‏{‏ وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملا ولئن قلت إنكم مبعوثون من بعد الموت ليقولن الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين ‏.‏ ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة ليقولن ما يحبسه ألا يوم يأتيهم ليس مصروفا عنهم وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون ‏}‏

يخبر تعالى عن قدرته على كل شيء وأنه خلق السماوات والأرض في ستة أيام، وأن عرشه كان على الماء قبل ذلك، كما روى الإمام أحمد، عن عمران بن حصين قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏اقبلوا البشرى يا بني تميم‏)‏، قالوا قد بشرتنا فأعطنا، قال‏:‏ ‏(‏اقبلوا البشرى يا أهل اليمن‏)‏، قالوا قد قبلنا، فأخبرنا عن أول هذا الأمر كيف كان‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏كان اللّه قبل كل شيء، وكان عرشه تحت الماء، وكتب في اللوح المحفوظ ذكر كل شيء‏)‏، قال، فأتاني آت فقال‏:‏ يا عمران انحلت ناقتك من عقالها، قال فخرجت في إثرها، فلا أدري ما كان بعدي قال ابن

كثير‏:‏ وهذا الحديث مخرج في صحيحي البخاري ومسلم بألفاظ كثيرة، فمنها قالوا‏:‏ جئنا نسألك عن أول هذا الأمر، فقال‏:‏ كان اللّه ولم يكن شيء قبله، وفي رواية غيره، وفي رواية منه كان عرشه على الماء ، وفي صحيح مسلم عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن اللّه قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء‏)‏، قال مجاهد‏:‏ ‏{‏وكان عرشه على الماء‏}‏ قبل أن يخلق شيئاً، وقال قتادة‏:‏ ‏{‏وكان عرشه على الماء‏}‏ ينبئكم كيف كان بدء خلقه قبل أن يخلق السماوات والأرض، وقال ابن عباس‏:‏ إنما سمي العرش عرشاً لارتفاعه، وعن سعيد بن جبير‏:‏ سئل ابن عباس عن قول اللّه‏:‏ ‏{‏وكان عرشه على الماء‏}‏ على أي شيء كان الماء‏؟‏ قال‏:‏ على متن الريح‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ليبلوكم أيكم أحسن عملا‏}‏ أي خلق السماوات والأرض لنفع عباده الذين خلقهم ليعبدوه ولا يشركوا به شيئاً ولم يخلق ذلك عبثاً، كقوله‏:‏ ‏{‏وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا‏}‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون * فتعالى اللّه الملك الحق‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏ليبلوكم‏}‏ أي ليختبركم ‏{‏أيكم أحسن عملا‏}‏ ولم يقل أكثر عملا، بل ‏{‏أحسن عملا‏}‏، ولا يكون العمل حسناً حتى يكون خالصاً للّه عزّ وجلّ، على شريعة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فمتى فقد العمل واحداً من هذين الشرطين حبط وبطل، وقوله‏:‏ ‏{‏ولئن قلت إنكم مبعوثون من بعد الموت‏}‏ الآية، يقول تعالى ولئن أخبرت يا محمد هؤلاء المشركين أن اللّه سيبعثهم بعد مماتهم كما بدأهم مع أنهم يعلمون أن اللّه تعالى هو الذي خلق السماوات والأرض، وهم مع هذا ينكرون البعث والمعاد يوم القيامة، الذي هو بالنسبة إلى القدرة أهون من البداءة، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه‏}‏، وقولهم‏:‏ ‏{‏إن هذا إلا سحر مبين‏}‏ أي يقولون كفراً وعناداً ما نصدقك على وقوع البعث، وما يذكر ذلك إلا من سحرته فهو يتبعك على ما تقول، وقوله‏:‏ ‏{‏ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة‏}‏ الآية، يقول تعالى‏:‏ ولئن أخرنا عنهم العذاب والمؤخذاة إلى أجل معدود وأمد محصور، وأوعدناهم إلى مدة مضروبة ليقولن تكذيباً واستعجالاً ‏{‏ما يحبسه‏}‏ أي يؤخر هذا العذاب عنا، فإن سجاياهم قد ألفت التكذيب والشك، فلم يبق لهم محيص عنه ولا محيد؛ والأمة تستعمل القرآن في معان متعددة، فيراد بها الأمد كقوله في هذه الآية‏:‏ ‏{‏إلى أمة معدودة‏}‏، وقوله في يوسف‏:‏ ‏{‏وادكر بعد أمة‏}‏، وتستعمل في الإمام المقتدى به، كقوله‏:‏ ‏{‏إن إبراهيم كان أمة‏}‏، وتستعمل في الملة والدين كقول المشركين‏:‏ ‏{‏إنا وجدنا آباءنا على أمة‏}‏، وتستعمل في الجماعة كقوله‏:‏ ‏{‏وجد عليه أمة من الناس يسقون‏}‏، وتستعمل في الفرقة والطائفة كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون‏}‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏9 ‏:‏ 11‏)‏

‏{‏ ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نزعناها منه إنه ليؤوس كفور ‏.‏ ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليقولن ذهب السيئات عني إنه لفرح فخور ‏.‏ إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة وأجر كبير ‏}‏

يخبر تعالى عن الإنسان وما فيه من الصفات الذميمة، إلا من رحم اللّه، أنه إذا أصابته شدة بعد نعمة حصل له يأس وقنوط بالنسبة إلى المستقبل، وكفر وجحود لماضي الحال، كأنه لم ير خيراً ولم يرج بعد ذلك فرجاً، وهكذا إن أصابته نعمة بعد نقمة ‏{‏ليقولن ذهب السيئات عني‏}‏ أي يقول ما ينالني بعد هذا ضيم ولا سوء، ‏{‏إنه لفرح فخور‏}‏ أي فرح بما في يده بطر فخور على غيره، قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏إلا الذين صبروا‏}‏ أي على الشدائد والمكاره، ‏{‏وعملوا الصالحات‏}‏ أي في الرخاء والعافية، ‏{‏أولئك لهم مغفرة‏}‏ أي بما يصيبهم من الضراء ‏{‏وأجر كبير‏}‏ بما أسلفوه في زمن الرخاء كما جاء في الحديث‏:‏ ‏(‏والذي نفسي بيده لا يصيب المؤمن هم ولا غم ولا نصب ولا وصب ولا حزن حتى الشوكة يشاكها إلا غفر اللّه عنه بها من خطاياه‏)‏، وفي الصحيحين‏:‏ ‏(‏والذي نفسي بيده لا يقضي اللّه للمؤمن قضاء إلا كان خيراً له إن أصابته سراء فشكر كان خيراً له، وإن أصابته ضراء فصبر كان خيراً له، وليس ذلك لأحد غير المؤمن‏)

 الآية رقم ‏(‏12 ‏:‏ 14‏)‏

‏{‏ فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك أن يقولوا لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك إنما أنت نذير والله على كل شيء وكيل ‏.‏ أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين ‏.‏ فإن لم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله وأن لا إله إلا هو فهل أنتم مسلمون ‏}‏

يقول تعالى مسلياً لرسوله صلى اللّه عليه وسلم عما كان يتعنت به المشركون فيما كانوا يقولونه عن الرسول كما أخبر تعالى عنهم في قوله‏:‏ ‏{‏وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا‏}‏، فأمر اللّه تعالى رسوله صلوات اللّه وسلامه عليه وأرشده إلى أن لا يضيق بذلك منهم صدره، ولا يصدنه ذلك ولا يثنيه عن دعائهم إلى اللّه عزَّ وجلَّ آناء الليل وأطراف النهار، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون‏}‏ الآية، وقال ههنا‏:‏ ‏{‏فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك أن يقولوا‏}‏ أي لقولهم ذلك، فإنما أنت نذير ولك اسوة بإخوانك من الرسل قبلك فإنهم كُذّبوا وأوذوا فصبروا حتى أتاهم نصر اللّه عزَّ وجلَّ، ثم بين تعالى إعجاز القرآن، وأنه لا يستطيع أحد أن يأتي بمثله ولا بعشر سور مثله، ولا بسورة من مثله، لأن كلام الرب تعالى لا يشبه كلام المخلوقين كما أن صفاته لا تشبه صفات المحدثات، وذاته لا يشبهها شيء، تعالى وتقدس وتنزه، ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏فإن لم يستجيبوا لكم‏}‏ أي فإن لم يأتوا بما

دعوتموهم إليه، فاعلموا أنهم عاجزون عن ذلك، وأن هذا الكلام منزل من عند اللّه متضمن علمه وأمره ونهيه ‏{‏وأن لا إله إلا هو فهل أنتم مسلمون‏}‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏15 ‏:‏ 16‏)‏

‏{‏ من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون ‏.‏ أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون ‏}‏

قال ابن عباس‏:‏ إن أهل الرياء يعطون بحسناتهم في الدنيا، وذلك أنهم لا يظلمون نقيراً، يقول‏:‏ من عمل صالحاً التماس الدنيا صوماً أو صلاة لا يعمله إلا التماس الدنيا، أوفيّه الذي التمس

في الدنيا من المثابة وحبط عمله الذي كان يعمله وهو في الآخرة من الخاسرين، وقال أنَس والحسن‏:‏ نزلت في اليهود والنصارى، وقال مجاهد‏:‏ نزلت في أهل الرياء، وقال قتادة‏:‏ من كانت الدنيا همه ونيته وطلبته، جازاه اللّه بحسناته في الدنيا، ثم يفضي إلى الآخرة وليس له حسنة يعطى بها جزاء؛ وأما المؤمن فيجازى بحسناته في الدنيا ويثاب عليها في الآخرة، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا * ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا‏}‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏من كان يرد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب‏}‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏17‏)‏

‏{‏ أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة أولئك يؤمنون به ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده فلا تك في مرية منه إنه الحق من ربك ولكن أكثر الناس لا يؤمنون ‏}‏

يخبر تعالى عن حال المؤمنين الذين هم على فطرة اللّه تعالى، التي فطر عليها عباده، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فأقم وجهك لدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها‏}‏ الآية‏.‏ وفي الصحيحين‏:‏ كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه الحديث‏.‏ وفي صحيح مسلم‏:‏ يقول اللّه تعالى إني خلقت عبادي حنفاء، فجاءتهم الشياطين، فاجتالتهم على دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم‏.‏ وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً ‏.‏ فالمؤمن باق على هذه الفطرة، وقوله‏:‏ ‏{‏ويتلوه شاهد منه‏}‏ أي وجاءه شاهد من اللّه، وهو ما أوحاه إلى الأنبياء من الشرائع المطهرة المكملة المعظمة، المختتمة بشريعة محمد صلوات اللّه وسلامه عليهم أجمعين، ولهذا قال ابن عباس ومجاهد‏:‏ ‏{‏ويتلوه شاهد منه‏}‏ إنه جبريل عليه السلام، وعن علي والحسن وقتادة‏:‏ هو محمد صلى اللّه عليه وسلم، وكلاهما قريب في المعنى، لأن كلا من جبريل ومحمد صلوات اللّه عليهما بلغ رسالة اللّه تعالى، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه‏}‏ وهو القرآن بلّغه جبريل إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم وبلّغه النبي إلى أمته، ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏ومن قبله كتاب موسى‏}‏ أي ومن قبل القرآن كتاب موسى وهو التوراة ‏{‏إماما ورحمة‏}‏ أي أنزله اللّه تعالى إلى تلك الأمة إماماً لهم، وقدوة يقتدون بها ورحمة من اللّه بهم، فمن آمن به حق الإيمان قاده ذلك إلى الإيمان بالقرآن، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏أولئك يؤمنون به‏}‏، ثم قال متوعداً لمن كذب بالقرآن أو بشيء منه، ‏{‏ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده‏}‏ أي ومن كفر بالقرآن من سائر أهل الأرض، مشركهم وكافرهم وأهل الكتاب وغيرهم من سائر طوائف بني آدم ممن بلغه القرآن، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏لأنذركم به ومن بلغ‏}‏، ‏{‏فالنار موعده‏}‏ كما ورد في الصحيح والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي أو نصراني ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار ‏"‏أخرجه مسلم عن أبي موسى الأشعري‏"‏، وقال سعيد بن جبير‏:‏ كنت لا أسمع بحديث النبي صلى اللّه عليه وسلم على وجهه إلا وجدت تصديقه في القرآن، فبلغني أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني فلا يؤمن بي إلا دخل النار‏)‏، فجعلت أقول أين مصداقه في كتاب اللّه‏؟‏ حتى وجدت هذه الآية‏:‏ ‏{‏ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده‏}‏، قال‏:‏ من الملل كلها، وقوله‏:‏ ‏{‏فلا تك في مرية منه إنه الحق من ربك‏}‏ الآية، أي القرآن حق من اللّه لا مرية ولا شك فيه، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين‏}‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏ألم، ذلك الكتاب لا ريب فيه‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏ولكن أكثر الناس لا يؤمنون‏}‏، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل اللّه‏}‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏18 ‏:‏ 22‏)‏

‏{‏ ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أولئك يعرضون على ربهم ويقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين ‏.‏ الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا وهم بالآخرة هم كافرون ‏.‏ أولئك لم يكونوا معجزين في الأرض وما كان لهم من دون الله من أولياء يضاعف لهم العذاب ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون ‏.‏ أولئك الذين خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون ‏.‏ لا جرم أنهم في الآخرة هم الأخسرون ‏}‏

يبيّن تعالى حال المفترين عليه وفضيحتهم في الدار الآخرة على رؤوس الخلائق، كما ورد عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إن اللّه عزَّ وجلَّ يدني المؤمن، فيضع عليه كنفه ويستره من الناس، ويقرره بذنوبه، ويقول له‏:‏ أتعرف ذنب كذا‏؟‏ أتعرف ذنب كذا‏؟‏ أتعرف ذنب كذا‏؟‏ حتى إذا قرره بذنوبه، ورأى في نفسه أنه قد هلك، قال‏:‏ فإني قد سترتها عليك في الدنيا، وإني أغفرها لك اليوم، ثم يعطى كتاب حسناته، وأما الكفار والمنافقون فيقول‏:‏ ‏{‏الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة اللّه على الظالمين‏}‏‏)‏ ‏"‏أخرجه البخاري ومسلم وأحمد عن ابن عمر رضي اللّه عنهما‏"‏الآية‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا‏}‏ أي يردون عن اتباع الحق، وسلوك طريق الهدى الموصلة إلى اللّه عزَّ وجلَّ، ‏{‏ويبغونها عوجا‏}‏ أي ويريدون أن يكون طريقهم ‏{‏عوجا‏}‏ غير معتدلة، ‏{‏وهم بالآخرة هم كافرون‏}‏ أي جاحدون بها مكذبون بوقوعها، ‏{‏أولئك لم يكونوا معجزين في الأرض وما كان لهم من دون اللّه من أولياء‏}‏ أي بل كانوا تحت قهره وغلبته، وفي قبضته وسلطانه، وهو قادر على الانتقام منهم، ولكنْ ‏{‏يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار‏}‏، وفي الصحيحين‏:‏ ‏(‏إن اللّه ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته‏)‏، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏يضاعف لهم العذاب‏}‏، الآية، أي يضاعف عليهم العذاب، وذلك أن اللّه تعالى جعل لهم سمعاً وأبصاراً وأفئدة، فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم، بل كانوا صماً عن سماع الحق، عمياً عن اتباعه، كما أخبر تعالى عنهم حين دخولهم النار ‏{‏وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير‏}‏‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أولئك الذين خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون‏}‏ أي خسروا أنفسهم لأنهم أدخلوا ناراً حامية، فهم معذبون فيها لا يفتر عنهم من عذابها، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏كلما خبت زدناهم سعيرا‏}‏، ‏{‏وضل عنهم‏}‏ أي ذهب عنهم، ‏{‏ما كانوا يفترون‏}‏، من دون اللّه من الأنداد والأصنام فلم تجد عنهم شيئا بل ضرتهم كل الضرر، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء

وكانوا بعبادتهم كافرين‏}‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏سيكفرون بعبادتهم ويكون عليهم ضدا‏}‏، وقال الخليل لقومه‏:‏ ‏{‏ثم يوم القيامة يكفر بعضكم لبعض ويلعن بعضكم بعضا ومأواكم النار وما لكم من ناصرين‏}‏ إلى غير ذلك من الآيات الدالة على خسرهم ودمارهم، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏لا جرم أنهم في الآخرة هم الأخسرون‏}‏، يخبر تعالى عن مآلهم بأنهم أخسر الناس في الآخرة، لأنهم اعتاضوا عن نعيم الجنان بحميم آن، وعن الحور العين بطعام من غسلين، وعن القصور العالية بالهاوية، فلا جرم أنهم في الآخرة هم الأخسرون‏.‏

 الآية رقم ‏(‏23 ‏:‏ 24‏)‏

‏{‏ إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأخبتوا إلى ربهم أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون ‏.‏ مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع هل يستويان مثلا أفلا تذكرون ‏}‏

لما ذكر تعالى حال الأشقياء، ثَّنى بذكر السعداء، وهم الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وبهذا ورثوا الجنات، المشتملة على الغرف العاليات، والقطوف الدانيات، والحسان الخيرات، والفواكه المتنوعات، والنظر إلى خالق الأرض والسماوات، وهم في ذلك خالدون لا يموتون ولا يهرمون ولا يمرضون ولا يبصقون ولا يتمخطون، إن هو إلا رشح مسك يعرقون؛ ثم ضرب تعالى مثل الكافرين والمؤمنين فقال‏:‏ ‏{‏مثل الفريقين‏}‏ أي الذين وصفهم أولاً بالشقاء، والمؤمنين بالسعادة، فأولئك كالأعمى والأصم، وهؤلاء كالبصير والسميع، فالكافر أعمى لا يهتدي إلى خير ولا يعرفه، أصم عن سماع الحجج فلا يسمع ما ينتفع به، ‏{‏ولو علم اللّه فيهم خيرا لأسمعهم‏}‏، وأما المؤمن ففطن ذكي، بصير بالحق يميز بينه وبين الباطل، فيتبع الخير ويترك الشر، سميع للحجة فلا يروج عليه باطل، فهل يستوي هذا وهذا‏؟‏ ‏{‏أفلا تذكرون‏}‏ أفلا تعتبرون فتفرقون بين هؤلاء وهؤلاء كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون‏}‏، وكقوله‏:‏ ‏{‏وما يستوي الأعمى والبصير ولا الظلمات ولا النور ولا الظل ولا الحرور وما يستوي الأحياء ولا الأموات‏}‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏25 ‏:‏ 27‏)‏

‏{‏ ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه إني لكم نذير مبين ‏.‏ أن لا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم ‏.‏ فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما نراك إلا بشرا مثلنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين ‏}‏

يخبر تعالى عن نوح عليه السلام، وكان أول رسول بعثه اللّه إلى أهل الأرض من المشركين عبدة الأصنام أنه قال لقومه‏:‏ ‏{‏إني لكم نذير مبين‏}‏ أي ظاهر النذارة لكم من عذاب اللّه إن أنتم عبدتم غير اللّه، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏أن لا تعبدوا إلا اللّه‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم‏}‏ أي إن استمررتم على ما أنتم عليه عذّبكم اللّه عذاباً أليماً، ‏{‏فقال الملأ الذين كفروا من قومه‏}‏، والملأ هم السادة والكبراء من الكافرين منهم ‏{‏ما نراك إلا بشرا مثلنا‏}‏،

أي لست بملك ولكنك بشر، فكيف أوحي إليك من دوننا‏؟‏ ثم ما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا كالباعة والحاكة وأشباههم ولم يتبعك الأشراف ولا الرؤساء منا، ثم هؤلاء الذين اتبعوك لم

يكن عن فكر ولا نظر، بل بمجرد ما دعوتهم أجابوك، ولهذا قالوا‏:‏ ‏{‏وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي‏}‏ أي في أول بادئ ‏{‏وما نرى لكم علينا من فضل‏}‏، يقولون‏:‏ ما رأينا لكم

علينا فضلية في خَلْق ولا خُلُق لما دخلتم في دينكم هذا، ‏{‏بل نظنكم كاذبين‏}‏ أي فيما تدعونه لكم من البر والصلاح والعبادة والسعادة‏.‏ هذا اعتراض الكافرين على نوح عليه السلام وأتباعه، وهو دليل على جهلهم وقلة علمهم وعقلهم، فإنه ليس بعار على الحق رذالة من اتبعه، سواء

اتبعه الأشراف أو الأراذل، بل الحق الذي لا شك فيه أن أتباع الحق وهم الأشراف ولو كانوا فقراء، والذين يأبونه هم الأراذل ولو كانوا أغنياء‏.‏ والغالب على الأشراف والكبراء مخالفة الحق، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون‏}‏، ولما سأل هرقل ملك الروم أبا سفيان‏:‏ أشراف الناس اتبعوه أو ضعفاؤهم‏؟‏ قال‏:‏ بل ضعفاؤهم، فقال هرقل‏:‏ هم أتباع الرسل (1)‏، وقولهم بادي الرأي ليس بمذمة ولا عيب، لأن الحق إذا وضح لا يبقى للرأي ولا للفكر مجال، والرسل صلوات اللّه وسلامه عليهم أجمعين إنما جاءوا بأمر جلي واضح، وفي الحديث‏:‏ ‏(‏ما دعوت أحداً إلى الإسلام إلا كانت له كبوة غير أبي بكر ، فإنه لم يتلعثم‏)‏ ‏"‏أخرجه الشيخان في فضائل أبي بكر‏"‏أي ما تردّد ولا تروّى، لأنه رأى أمراً عظيماً واضحاً فبادر إليه وسارع، وقوله‏:‏ ‏{‏وما نرى لكم علينا من فضل‏}‏، هم لا يرون ذلك لأنهم عميٌ عن الحق لا يسمعون ولا يبصرون، بل هم في ريبهم يترددون، وفي الآخرة هم الأخسرون‏.‏

 الآية رقم ‏(‏28‏)‏

‏{‏ قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم أنلزمكموها وأنتم لها كارهون ‏}‏

يقول تعالى مخبراً عما رد به نوح على قومه في ذلك‏:‏ ‏{‏أرأيتم إن كنت على بينة من ربي‏}‏ أي على يقين وأمر جلي ونبوة صادقة وهي الرحمة العظيمة من اللّه به وبهم، ‏{‏فعميت عليكم‏}‏ أي خفيت عليكم فلم تهتدوا إليها ولا عرفتم قدرها بل بادرتم إلى تكذيبها وردها ‏{‏أنلزمكموها‏}‏ أي نغصبكم بقبولها وأنتم لها كارهون‏.‏

 الآية رقم ‏(‏29 ‏:‏ 30‏)‏

‏{‏ ويا قوم لا أسألكم عليه مالا إن أجري إلا على الله وما أنا بطارد الذين آمنوا إنهم ملاقوا ربهم ولكني أراكم قوما تجهلون ‏.‏ ويا قوم من ينصرني من الله إن طردتهم أفلا تذكرون ‏}‏

يقول لقومه‏:‏ ولا أسألكم على نصحي ‏{‏مالا‏}‏ أجرة آخذها منكم، إنما أبتغي الأجر من اللّه عزّ وجلّ، ‏{‏وما أنا بطارد الذين آمنوا‏}‏ طلبوا منه أن يطرد المؤمنين احتشاماً أن يجلسوا معهم، كما سأل أمثالهم خاتم الرسل صلى اللّه عليه وسلم أن يطرد عنهم جماعة من الضعفاء ويجلس معهم مجلساً خاصاً، فأنزل اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي‏}‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏31‏)‏

‏{‏ ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول إني ملك ولا أقول للذين تزدري أعينكم لن يؤتيهم الله خيرا الله أعلم بما في أنفسهم إني إذا لمن الظالمين ‏}‏

يخبرهم أنه رسول من اللّه يدعو إلى عبادة اللّه وحده، ولا يسألهم على ذلك أجراً، ثم هو يدعو الشريف والوضيع، فمن استجاب له فقد نجا، ويخبرهم أنه لا قدرة له على التصرف في خزائن اللّه، ولا يعلم من الغيب إلا ما أطلعه اللّه عليه، وليس هو بملك من الملائكة، بل هو بشرٌ مرسل مؤيد بالمعجزات، ولا أقول عن هؤلاء الذين تحتقرونهم وتزدرونهم، إنهم ليس لهم عند اللّه ثواب على أعمالهم ‏{‏اللّه أعلم بما في أنفسهم‏}‏، فإن كانوا مؤمنين، فلهم جزاء الحسنى‏.‏

 الآية رقم ‏(‏32 ‏:‏ 34‏)‏

‏{‏ قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين ‏.‏ قال إنما يأتيكم به الله إن شاء وما أنتم بمعجزين ‏.‏ ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم هو ربكم وإليه ترجعون ‏}‏

يقول تعالى مخبراً عن استعجال قوم نوح نقمة اللّه وعذابه - والبلاء موكلٌ بالمنطق - قالوا‏:‏ ‏{‏يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا‏}‏ أي حاججتنا فأكثرت من ذلك ونحن لا نتبعك، ‏{‏فأتنا بما تعدنا‏}‏ أي من النقمة والعذاب ادع بما شئت علينا فليأتنا ما تدعو به، ‏{‏إن كنت من الصادقين قال إنما يأتيكم به اللّه إن شاء وما أنتم بمعجزين‏}‏ أي إنما الذي يعاقبكم ويعجلها لكم اللّه الذي لا يعجزه شيء، ‏{‏ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان اللّه يريد أن يغويكم‏}‏ أي أيُّ شيء يجدي عليكم إبلاغي لكم وإنذاري إياكم ونصحي ‏{‏إن كان اللّه يريد أن يغويكم‏}‏ أي إغواءكم ودماركم، ‏{‏هو ربكم وإليه ترجعون‏}‏ أي هو مالك أزمة الأمور، المتصرف الحاكم العادل الذي لا يجوز، له الخلق وله الأمر وهو المبدئ المعيد‏.‏

 الآية رقم ‏(‏35‏)‏

‏{‏ أم يقولون افتراه قل إن افتريته فعلي إجرامي وأنا بريء مما تجرمون ‏}‏

هذا كلام معترض في وسط هذه القصة، مؤكد لها مقرر لها، يقول تعالى لمحمد صلى اللّه عليه وسلم أم يقول هؤلاء الكافرون الجاحدون افترى هذا وافتعله من عنده،

‏{‏قل إن افتريته فعلي إجرامي‏}‏ أي قائم ذلك علي، ‏{‏وأنا بريء مما تجرمون‏}‏ أي ليس ذلك مفتعلاً ولا مفترى، لأني أعلم ما عند اللّه من العقوبة لمن كذب عليه‏.‏

 الآية رقم ‏(‏36 ‏:‏ 39‏)‏

‏{‏ وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون ‏.‏ واصنع الفلك بأعيننا ووحينا ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون ‏.‏ ويصنع الفلك وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه قال إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون ‏.‏ فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم ‏}‏

يخبر تعالى أنه أوحى إلى نوح، لما استعجل قومه نقمة اللّه بهم وعذابه لهم، فدعا عليهم نوح دعوته‏:‏ ‏{‏رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا‏}‏، ‏{‏فدعا ربه أني مغلوب فانتصر‏}‏ فعند ذلك أوحى اللّه إليه‏:‏ ‏{‏أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن‏}‏ فلا تحزن عليهم ولا يهمنك أمرهم، ‏{‏واصنع الفلك‏}‏ يعني السفينة، ‏{‏بأعيننا‏}‏ أي بمرأى منا، ‏{‏ووحينا‏}‏ أي تعليمنا لك ما تصنعه، ‏{‏ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون‏}‏‏.‏ قال قتادة‏:‏ كان طولها ثلثمائة ذراع في عرض خمسين، وعن الحسن‏:‏ طولها ستمائة ذراع وعرضها ثلثمائة، وقيل غير ذلك، قالوا‏:‏ وكان ارتفاعها في السماء ثلاثين ذراعاً، ثلاث طبقات كل طبقة عشرة أذرع، فالسفلى للدواب والوحوش، والوسطى للإنس، والعليا للطيور، وكان بابها في عرضها ولها غطاء من فوقها مطبق عليها‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويصنع الفلك وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه‏}‏ أي يهزأون به ويكذبون بما يتوعدهم به من الغرق، ‏{‏قال إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم‏}‏ الآية‏.‏ وعيد شديد وتهديد أكيد، ‏{‏من يأتيه عذاب يخزيه‏}‏ أي يهينه في الدنيا، ‏{‏ويحل عليه عذاب مقيم‏}‏ أي دائم مستمر أبداً‏.‏